فصل: الشاهد الثاني والأربعون بعد السبعمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الحادي والأربعون بعد السبعمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل

وإن شفاء عبرة مهراقة

على أنه يجوز أن يخبر في باب إن أيضاً عن النكرة كما هنا، فإن شفاءً وقع اسم منكراً، وأخبر عنه ب‏؟‏ عبرة‏.‏

قال الشارح المحقق‏:‏ وكذا أنشده سيبويه‏.‏

أقول‏:‏ هذا نصه في باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة إن وأخواتها، قال‏:‏ وتقول‏:‏ إن قريباً منك زيداً، إذا جعلت قريباً منك موضعاً‏.‏ وإن جعلت الأول هو الآخر، قلت‏:‏ إن قريباً منك زيد، وتقول‏:‏ إن بعيداً منك زيد‏.‏ والوجه إذا أردت هذا أن تقول‏:‏ إن زيداً قريب وبعيد منك، لأنه اجتمع معرفة ونكرة‏.‏

وقال امرؤ القيس‏:‏

وإن شفاء عبرة مهراقة *** فهل عند رسم دارس من معول

فهذا أحسن لأنه نكرة‏.‏ وإن شئت قلت‏:‏ إن بعيداً منك زيداً‏.‏ وقلما يكون بعيداً منك ظرفاً، لأنك لا تقول‏:‏ إن بعدك، وتقول‏:‏ إن قربك؛ فالدنو أشد تمكيناً في الظرف من البعد‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

والرواية المشهورة في البيت‏:‏ وإن شفائي، بالإضافة إلى ياء المتكلم‏.‏ وهذا هو المشهور المعروف‏.‏

والبيت من أول معلقة امرئ القيس، ولم يذكر شراحها تلك الرواية، إلا أن الخطيب التبريزي، قال‏:‏ روى سيبويه هذا البيت وإن شفاء عبرة، واحتج فيه بأن النكرة يخبر عنها بالنكرة‏.‏

ويروى‏:‏‏؟‏وإن شفائي عبرة لو سفحتها أي‏:‏ صببتها‏.‏ ولو‏:‏ للتمني لا جواب لها‏.‏ والعبرة، بالفتح‏:‏ الدمعة، وجمعها عبر، كبدرة وبدر‏.‏ ومهراقة، بفتح الهاء، أي‏:‏ مصبوبة‏.‏

قال ابن السيد في شرح أدب الكاتب‏:‏ قد ذكر ابن قتيبة في باب فعلت، وأفعلت هرقت الماء وأهرقته‏.‏ وقد قال مثله بعض اللغويين ممن لا يحسن التصريف، وتوهم أن هذه الهاء في هذه الكلمة أصل‏.‏ وهو غلط، والصحيح أن هرقت، وأهرقت فعلان رباعيان معتلان، أصهلما أرقت‏.‏

فمن قال‏:‏ هرقت فالهاء عنده بدل من همزة أفعلت، كما قالوا‏:‏ أرحت الماشية وهرحتها، وأنرت الثوب وهنرته‏.‏

ومن قال‏:‏ أهرقت فالهاء عنده عوض من ذهاب حركة عين الفعل عنها، ونقلها إلى الفاء؛ لأن الأصل أريقت وأروقت، بالياء وبالواو، على الاختلاف في ذلك، ثم نقلت حركة الواو والياء إلى الراء، فانقلب حرف العلة ألفاً لانفتاح ما قبلها ثم حذف لسكونه وسكون القاف‏.‏

والساقط من أرقت يحتمل أن يكون واواً، فيكون مشتقاً من راق الشيء يروق، ويحتمل ن يكون ياء، لأن الكسائي حكى‏:‏ راق الماء يريق، إذا انصب‏.‏

والدليل على أن الهاء في هرقت، وأهرقت ليست فاء الفعل على ما توهم من ظنها كذلك، أنها لو كانت كذلك للزم أن يجرى هرقت في تصريفه مجرى ضربت، فيقال‏:‏ هرقت أهرق هرقاً، كما تقول‏:‏ ضربت أضرب ضرباً، ومجرى غيره من الأفعال الثلاثية، التي يجيء مضارعها بضم العين، وتجيء مصادرها مختلفة‏.‏

وكان يلزم أن يجرى أهرقت في تصريفه مجرى أكرمت ونحوه من الأفعال الرباعية المصححة، فيقال‏:‏ أهرقت أهرق إهراقاً، كما تقول‏:‏ أكرمت أكرم إكراماً‏.‏

ولم تقل العرب شيئاً من ذلك، وإنما يقولون في تصريف هرقت أهريق، يفتحون الهاء، وكذلك يفتحونها في اسم الفاعل، فيقولون‏:‏ مهريق، وفي سم المفعول مهراق، لأنها بدل من همزة لو ثبتت في تصريف الفعل لكانت مفتوحة‏.‏

ألا ترى أنك لو صرفت أرقت على ما ينبغي من التصريف، ولم تحذف الهمزة منه لقلت في مضارعه يؤريق، وفي اسم فاعله مؤريق، وفي اسم مفعوله مؤريق‏.‏ وقالوا في المصدر‏:‏ هراقة كما قالوا إراقة‏.‏

وإذا صرفوا أهرقت، قالوا في المضارع أهريق، وفي المصدر إهراقة، وفي اسم الفاعل مهريق، وفي اسم المفعول مهراق، فأسكنوا الهاء في جميع تصريف الكلمة‏.‏ فهذا يدل على أنه رباعي معتل وليس بفعل صحيح، وأن الهاء فيه بدل من همزة‏.‏ أرقت وعوض كما قلنا‏.‏

قال العديل بن الفرخ‏:‏ الطويل

فكنت كمهريق الذي في سقائه *** لرقراق آل فوق رابية صلد

وقال ذو الرمة‏:‏ الطويل

فلما دنت إهراقة الماء أنصتت

وقال الأعشى في أراك‏:‏ الخفيف

في أراك مرد يكاد إذا م *** ذرت الشمس ساعة يهراق

انتهى كلامه، ولجودته سقناه بتمامه‏.‏

وقوله‏:‏ فهل عند رسم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، الرسم‏:‏ الأثر‏.‏ والدارس‏:‏ المنطمس‏.‏ والفاء في جواب شرط مقدر، قال ابن جني في سر الصناعة‏:‏ ومن ذلك قول امرئ القيس‏:‏

وإن شقائي عبرة ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

ففي قوله معول، مذهبان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه مصدر عولت بمعنى‏:‏ أعولت، أي‏:‏ بكيت‏.‏ أي‏:‏ فهل عند رسم دارس من إعوال وبكاءٍ‏.‏

والآخر‏:‏ أنه مصدر عولت على كذا، أي‏:‏ اعتمدت عليه، كقولهم‏:‏ إنما عليك معولي، أي‏:‏ اتكالي‏.‏

وعلى أي الأمرين حملت المعول فدخول الفاء على‏:‏ فهل عند رسم، حسن جميل، أما على الأول فكأنه قال‏:‏ إن شفائي أن أسفح عبرتي‏.‏ ثم خاطب نفسه وصاحبيه، فقال‏:‏ إذا كان الأمر على ما قدمت من أن في البكاء شفاء وجدي، فهل من بكاء أشفي به غليلي‏؟‏ فهذا ظاهره استفهام لنفسه، ومعناه التحضيض لها على البكاء، كما تقول‏:‏ قد أحسنت إلي فهل أشكرك‏؟‏ أي‏:‏ فلأشكرنك‏.‏ وقد زرتني فهل أكافئك‏؟‏ أي‏:‏ فلأكافئنك‏.‏

وإذا خاطب صاحبيه، فكأنه قال‏:‏ قد عرفتكما سبب شفائي، وهو البكاء والإعوال، فهل تعولان وتبكيان معي لأشفي وجدي ببكائكما‏.‏ فهذا التفسير على قول من قال‏:‏ إن معولي بمنزلة إعوالي‏.‏

والفاء عقدت آخر الكلام بأوله، لأنه كأنه قال‏:‏ إن كنتما قد عرفتما ما أوثره من البكاء فابكيا معي‏.‏

كما أنه إذا استفهم نفسه فكأنه قال‏:‏ إذا كنت قد علمت أن في الإعوال راحة لي، فلا عذر لي في ترك البكاء‏.‏

وأما من جعل معولي بمعنى تعويل على كذا، أي‏:‏ اعتمادي واتكالي عليه، فوجه دخول الفاء على فهل في قوله‏:‏ أنه لما قال‏:‏ إن شفائي عبرة مهراقة، فكأنه قال‏:‏ إنما راحتي في البكاء، فما معنى اتكالي في شفاء غليلي على رسم دارس لا غناء عنده عني‏.‏ فسبيلي أن أقبل على بكائي، ولا أعول في برد غليلي على ما لا غناء عنده‏.‏

وهذا أيضاً معنى يحتاج معه إلى الفاء لتربط آخر الكلام بأوله، فكأنه قال‏:‏ إذا كان شفائي إنما هو في فيض دمعي، فسبيلي أن لا أعول على رسم دارس في دفع حزني، وينبغي أن أجد في البكاء، الذي هو سبب الشفاء‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

ووقع في رواية ابن هشام وهل بالواو، قال في المغني، في بحث هل، وفي عطف الإنشاء على الخبر من الباب الرابع‏:‏ إن هل فيه للنفي، ولذا صح العطف، إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر‏.‏

وقد تقدم في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائة عن الباقلاني في إعجاز القرآن أن هذا البيت مناقض لما قبله، فراجعه‏.‏

وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الوافر

يكون مزاجها عسل وماء

على أنه يجوز أن يخبر في بابي كان وإن بمعرفة عن نكرة في الاختيار كما هنا، فإن مزاجها روي بالنصب على أنه خبر مقدم وهو معرفة، وعسل اسم كان مؤخر، وهو نكرة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ لا يجوز هذا إلا في ضرورة الشعر‏.‏

وهذا مذهب ابن جني، قال في المحتسب‏:‏ روي عن عاصم أنه قر‏:‏ وما كان صلاتَهم عند البيت نصباً إلا مكاءٌ وتصديةٌ رفعاً‏.‏ ولحنه الأعمش‏.‏ وقد روي هذا الحرف أيضاً عن أبان بن تغلب أنه قرأه كذلك‏.‏

ولسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح، فإنما جاءت منه أبيات شاذة، وهو في ضرورة الشعر أعذر، والوجه اختيار الأفصح الأعرب، ولكن وراء ذلك ما أذكره‏.‏ اعلم أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته‏.‏

ألا ترى أنك تقول‏:‏ خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه معنى قولك‏:‏ خرجت فإذا الأسد بالباب، لا فرق بينها‏.‏ وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسداً واحداً معيناً، وإنما تريد خرجت فإذا بالباب واحد من هذا الجنس‏.‏

وإذا كان كذلك جاز هنا الرفع في مكاء وتصدية جوازاً قريباً، حتى كأنه قال‏:‏ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءُ والتصديةُ، أي‏:‏ إلا هذا الجنس من الفعل‏.‏

وإذا كان كذلك لم يجر هذا مجرى قولك‏:‏ كان قائم أخاك، وكان جالس أباك، لأنه ليس في جالس وقائم من معنى الجنسية التي تلاقي معنيا نكرتها ومعرفتها‏.‏

وأيضاً فإنه يجوز مع النفي من جعل اسم كان وأخواتها نكرة ما لا يجوز مع الإيجاب، فكذلك هذه القراءة، لما دخلها النفي قوي، وحسن جعل اسم كان نكرة‏.‏ هذا إلى ما ذكرنا من مشابهة نكرة اسم الجنس لمعرفته‏.‏

ولهذا ذهب بعضهم في قول حسان‏:‏

كأن سبيئة من بيت رأس *** يكون مزاجها عسل وماء

أنه إنما جاز ذلك من حيث كان عسل ومكاء جنسين، فكأنه قال‏:‏ يكون مزاجها العسل والماء‏.‏ فبهذا تسهل هذه القراءة، ولا تكون من القبح واللحن الذي ذهب إليه الأعمش‏.‏ انتهى‏.‏

وإليه أيضاً ذهب ابن السيد في أبيات المعاني، قال‏:‏ هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، فأما في الكلام فلا يجوز‏.‏

وقال اللخمي‏:‏ حسن ذلك أن مزاجاً مضاف إلى ضمير نكرة‏.‏ قال السيرافي عندما أنشد سيبويه‏:‏ الوافر

أظبي كان أمك أم حمار

إن ضمير النكرة لا تستفيد منه إلا نكرة‏.‏ ألا ترى إذا قلت‏:‏ مررت برجل فكلمته، لم تكن الهاء بموجبة تعريفاً لشخص بعينه، وإن كانت معرفة من حيث علم المخاطب أنها ترجع إلى ذلك المنكور‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ في هذا أربعة أقوال‏:‏ قيل هو على وجه الضرورة، وقيل‏:‏ أراد مزاجاً لها فنوى بالإضافة الانفصال فأخبر بنكرة عن نكرة‏.‏

وقال أبو علي‏:‏ نصب مزاجها على الظرف الساد مسد الخبر، كأنه قال‏:‏ يكون مستقراً في مزاجها‏.‏ فإذا كان ظرفاً تعلق بمحذوف يكون الناصب له، وقدم على عسل وماء كعادتهم في الظروف إذا وقعت أخباراً عن النكرات، لئلا تلتبس بالصفات‏.‏

ثم نقل توجيه ابن جني‏.‏ وكذلك نقل اللخمي عنه، قال‏:‏ وعن أبي علي أن مزاجها ينتصب على الظرف، تقديره على المعنى‏:‏ يكون مكان مزاجها عسل وماء‏.‏

قال ابن هشام في المغني‏:‏ وتأويله الفارسي على أن انتصاب المزاج على الظرفية المجازية‏.‏

وزعم شارحه ابن الملا أن كان على تأويل أبي علي تكون تامة‏.‏

وذهب الزمخشري في المفصل إلى أن هذا ونحوه من القلب الذي شجع عليه أمن الإلباس‏.‏

وإليه جنح ابن هشام في المغني، قال في الباب الثامن‏:‏ من فنون كلامهم القلب، وأكثر وقوعه في الشعر‏.‏ وأنشد البيت‏.‏ وقال في الباب الرابع منه‏:‏ إنه ضرورة‏.‏ ولم يذكر القلب‏.‏

وروي في البيت رفع مزاجها، ونصب عسل، ورفع ماء، وبرفع الجميع‏.‏

وقد تقدم كله مشروحاً مع القصيدة في الشاهد الثاني والثلاثين بعد السبعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الوافر

ولا يك موقف منك الوداعا

لما تقدم قبله، من أنه يجوز في الاختيار أن يخبر عن نكرة بمعرفة في ذينك البابين‏.‏

قال ابن مالك في التسهيل‏:‏ وقد يخبر هنا وفي باب إن بمعرفة عن نكرة اختياراً‏.‏

وقال في شرحه‏:‏ لما كان المرفوع هنا مشبهاً بالفاعل، والمنصوب مشبهاً بالمفعول، جاز أن يغني هنا تعريف المنصوب عن تعريف المرفوع، كما جاز في باب الفاعل، لكن بشرط الفائدة، وكون النكرة غير محضة‏.‏

من ذلك قول حسان‏:‏

يكون مزاجها عسل وماء

وليس بمضطر، إذ يمكنه أن يقول‏:‏ مزاجها بالرفع فيجعل اسم يكون ضمير الشأن‏.‏

وقول القطامي‏:‏

ولا يك موقف منك الوداعا

وليس بمضطر، إذ له ن يقول‏:‏ ولا يك موقفي‏.‏ والمحسن لهذا شبه المرفوع بالفاعل، والمنصوب بالمفعول‏.‏ وقد حمل هذا الشبه في باب إن، كقول الفرزدق‏:‏ الطويل

وإن حراماً أن أسب مجاشع *** بآبائي الشم الكرام الخضارم

انتهى‏.‏

وهذا مبني على تفسير الضرورة بما لا مندوحة للشاعر عنه‏.‏ وهذا فاسد من وجوه تقدم بيانها في شرح أول شاهد‏.‏ وعند الجمهور هو من الضرورة، ومعناها ما وقع في الشعر، سواء كان عنه مندوحة ولا‏.‏

قال اللخمي‏:‏ جعل موقفاً، وهو نكرة، اسم يك، والوداع وهو معرفة الخبر، ضرورة لإقامة الوزن‏.‏ وحسن الضرورة فيه ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن النكرة قد قربت من المعرفة بالصفة‏.‏

والثاني‏:‏ أن المصدر جنس، فمفاد نكرته، ومعرفته واحد‏.‏

والثالث‏:‏ أن الخبر هو المبتدأ في المعنى‏.‏

وقال صاحب اللباب‏:‏ وهما، أي‏:‏ المرفوع والمنصوب بكان، على شرائطهما في باب الابتداء‏.‏ وزعم بعض المنتمين إلى هذه الصنعة أن بناء الكلام على بعضهما من غير تقدير دخول على المبتدأ والخبر سائغ، بدليل قوله‏:‏

ولا يك موقف منك الوداعا

وليس بمحمول على الضرورة، إذ لا يتم المعنى المقصود إلا هكذا، إذ لو عرفهما لم يؤد أنه لم يرخص أن يكون ما سوى ذلك من المواقف وداعاً‏.‏ ولو نكرهما لم يؤد أن الوداع، قد كره إليه حتى صار نصب عينيه‏.‏ ولو عرف الأول ونكر الثاني لجمع بين الهجنتين‏.‏

والجواب بعد تسليم جميع ما ذكره أنه لو أراد إيراد هذا المعنى بطريق النفي دون النهي، لا بد أن يقول‏:‏ ما موقف منك الوداع، بعين ما ذكره‏.‏ على أن المقصود أن لا يكون الوداع موقفاً منها فيكون من باب القلب، مثل ما في قول الآخر‏:‏

يكون مزاجها عسل وماء

انتهى‏.‏

أراد بالهجنتين ترخيص كون ما سوى هذا الموقف المعين موقف وداع، وفوات النكتة المستفادة من تعريف الوداع‏.‏ وحاصله أنه لما اختار ووجود شرائط المبتدأ والخبر في هذه الأفعال لازم، ذهب إلى أن البيت محمول على الضرورة، لأنها دعت إلى القلب‏.‏

وأجاب عن استدلال المخالف بوجهين‏:‏ الأول‏:‏ أن يقال‏:‏ لا نسلم أنهما إن كانا معرفتين، يلزم قبح، لأن مبناه أن اللام في الموقف للعهد، وهو ممنوع لجواز أن تكون للجنس، أي‏:‏ لا يك جنس الموقف الوداع‏.‏

وفيه عموم سلمناه، لكن لا نسلم أنهما إن كانا منكرين يلزم قبح، لأنه مبني على أن اللام في الوداع للعهد إلى الشيء المكره عنده، وهو ممنوع لجواز كونه للجنس‏.‏

سلمناه لكنه منقوض بنقض إجمالي، وتوجيهه لو صح ما ذكرت لكان الواجب أن يقال عند إرادة هذا المعنى بطريق النفي دون النهي‏:‏ ما موقف منك الوداع بعين ما ذكرت‏.‏ لكن التالي باطل، لأن تنكير المبتدأ، وتعريف الخبر بعد النفي ليس حد الكلام الذي يجب أن يكون عليه الاتفاق‏.‏

الثاني‏:‏ أن مقصود الشاعر أن لا يكون موقف الوداع موقفاً من مواقفها بأن لا يكون وداع أصلاً‏.‏

وعلى هذا كان الوداع اسم كان، والموقف خبره، فقلب بأن جعل الاسم خبراً والخبر اسماً، والقلب مما يشجع عليه عند أمن الالتباس‏.‏

وهذا المصراع عجز، وصدره‏:‏

قفي قبل التفرق يا ضباعا

والبيت مطلع قصيدة للقطامي تقدم الكلام عليه في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثاني والأربعون بعد السبعمائة

، وهو من شواهد س‏:‏ الطويل

أسكران كان ابن المراغة إذ هج *** تميماً بجوف الشام أم متساكر

على أن سيبويه مثل به للإخبار عن النكرة بالمعرفة‏.‏

وهذا نصه‏:‏ اعلم أنه إذا وقع في الباب نكرة ومعرفة، فالذي تشغل به كان المعرفة؛ لأنه حد الكلام، ولأنهما شيء واحد، وليس بمنزلة قولك‏:‏ ضرب رجل زيداً، لأنهما شيئان مختلفان، وهما في كان بمنزلتهما في الابتداء‏.‏

فإذا قلت‏:‏ كان زيد فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك، وإنما ينتظر الخبر‏.‏ فإذا قلت‏:‏ حليماً فقد أعلمته مثل ما علمت‏.‏ فإذا قلت‏:‏ كان حليماً فإنما ينتظر أن تعرفه صاحب الصفة، فهو مبدوء به في الفعل، وإن كان مؤخراً في اللفظ‏.‏ فإن قلت‏:‏ كان حليم، ورجل، فقد بدأت بنكرة، فلا يستقيم أن تخبر المخاطب عن المنكور‏.‏ ولا يبدأ بما فيه يكون اللبس، وهو النكرة‏.‏

ألا ترى أنك لو قلت‏:‏ كان حليماً، وكان رجل منطلقاً، كنت تلبس، لأنه لا يستنكر أن يكون إنسان هكذا‏.‏ فكرهوا أن يبدؤوا باللبس، ويجعلوا المعرفة خبراً لما يكون في هذا اللبس‏.‏

وقد يجوز في الشعر في ضعف من الكلام‏.‏ حملهم على ذلك أنه فعل بمنزلة ضرب، وأنه قد يعلم إذا ذكرت زيداً، وجعلته خبراً أنه صاحب الصفة، على ضعف من الكلام‏.‏

وذلك قول خداش بن زهير‏:‏ الوافر

فإنك لا تبالي بعد حول *** أظبي كان أمك أم حمار

وقال حسان‏:‏ الوافر

كأن سبيئة من بيت رأس *** يكون مزاجها عسل وماء

وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري‏:‏ الوافر

ألا من مبلغ حسان عني *** أسحر كان طبك أم جنون

وقال الفرزدق‏:‏

أسكران كان ابن المراغة إذ هج *** تميماً بجوف الشام أم متساكر

فهذا إنشاد بعضهم‏.‏

وأكثرهم ينصب بالسكران، ويرفع الآخر على قطع وابتداء‏.‏ انتهى كلام سيبويه‏.‏

وقوله‏:‏ وأكثرهم ينصب السكران، أي‏:‏ ويرفع ابن المراغة على أنه اسم كان، ويكون الخبر مقدماً، وهو سكران‏.‏ وعلى هذا لا قبح‏.‏

وقوله‏:‏ ويرفع الآخر، هو متساكر، ويكون رفعه على القطع بجعله خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ أم هو متساكر، فتكون أم منقطعة‏.‏

وإذا رفع سكران، ونصب ابن المراغة، وهذه مسألتنا، ففيه قبح لضرورة الشعر، لأنه جعل اسم كان ضمير سكران وهو نكرة، ويكون ابن المراغة خبر كان، فيكون قد أخبر بمعرفة عن نكرة، ويرتفع سكران حينئذ بكان محذوفة كما يأتي بيانه، ويكون متساكر معطوفاً عليه، وعلى هذا أم متصلة، ويكون العطف من عطف مفرد على مفرد، والجملة واحدة‏.‏ وعلى الأول جملتان‏.‏

وإنما قال الشارح المحقق‏:‏ وأورد سيبويه للتمثيل بالإخبار عن النكرة بالمعرفة، ولم يقل‏:‏ استشهد للإخبار، لأن سيبويه لم يذهب إلى أن هذا جائز في الاختيار حتى يستشهد له، وإنما هو قبيح خاص بالشعر لم يرتضه في الكلام‏.‏ فأورد هذه الأبيات أمثلة لما استقبحه في الشعر‏.‏

وقد روي رفع ابن المراغة مع رفع سكران، فيكون المعرف على هذا مبتدأ، والمنكر خبراً، وكان زائدة‏.‏

وجوز ابن خلف أن يضمر في كان ضمير الشأن‏.‏ وهذا خطأ تبع فيه يوسف بن السيرافي في شرحه لشواهد سيبويه‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وضمير الشأن يعود على ما بعده لزوماً، ولا يجوز للجملة المفسرة له أن تتقدم هي، ولا شيء منها عليه‏.‏

وقد غلظ يوسف بن السيرافي، إذ قال في قوله‏:‏

أسكران كان ابن المراغة إذ هجا البيت

فيمن رفع سكران وابن المراغة‏:‏ إن كان شأنية، وابن المراغة وسكران مبتدأ وخبره، والجملة خبر كان‏.‏ والصواب أن كان زائدة‏.‏

والأشهر في إنشاده نصب سكران، ورفع ابن المراغة، فارتفاع متساكر على نه خبر لهو محذوفاً‏.‏ ويروى بالعكس فاسم كان مستتر فيها‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو علي في المسائل العسكرية‏:‏ قوله‏:‏ أسكران رفع بفعل مضمر تكون كان تفسيراً له، ودليلاً عليه‏.‏ وحسن الرفع في هذا لموضع لأن التقدير‏:‏ أكان سكران ابن المراغة‏؟‏ فاستفهم عن سكره لا عنه في نفسه‏.‏ وإذا كان كذلك كان الأولى أن يرفع، لأن النكرة لما دخلها هذا المعنى من أن القصد إنما وقع إليها، وجب أن يكون الرفع، فترفع بكان‏.‏ وكذلك قول الآخر‏:‏

أظبي كان أمك أم حمار

انتهى‏.‏

ومثله لابن جني في الخصائص، قال‏:‏ وقد حذف خبر كان في قوله‏:‏

أسكران كان ابن المراغة البيت

ألا ترى أن تقديره‏:‏ أكان سكران ابن المراغة، فلما حذف الفعل فسره بالثاني، وابن المراغة المذكور خبر كان الظاهرة، وخبر كان المضمرة محذوف معها، لأن كان الثانية دلت على الأولى‏.‏ وكذلك الخبر الثاني الظاهر، دل على الخبر الأول المحذوف‏.‏ انتهى‏.‏

وزعم ابن الملا الحلبي في شرح المغني أن سكران مبتدأ‏.‏ قال‏:‏ وصحت ابتدائيته مع نكارته لوقوعه في حيز الاستفهام، وأن جملة كان ابن المراغة خبره‏.‏ هذا كلامه‏.‏

والبيت من قصيدة للفرزدق هجا بها جريراً‏.‏ وأراد بابن المراغة جريراً، وكان الفرزدق قد لقب أمه بالمراغة، ونسبها إلى أنها راعية حمير‏.‏ والمراغة‏:‏ الأتان التي لا تمتنع من الفحول‏.‏ وإذ‏:‏ ظرف يتعلق بكان، وفاعل هجا ضمير ابن المراغة‏.‏

وأراد بتميم هاهنا‏:‏ بني دارم بن مالك بن حنظلة، وهم رهط الفرزدق، وجرير من رهط كليب بن يربوع بن حنظلة‏.‏

فلم يعتد الفرزدق برهط جرير في تميم، احتقاراً لهم‏.‏ وأراد بجوف الشام‏:‏ داخلها‏.‏

وروى أبو علي وابن جني وغيرهما‏:‏ ببطن الشام وهو بمعناه‏.‏ وروي‏:‏ بجو الشام، وهذا تحريف‏.‏

وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب‏.‏

وانشد بعده‏:‏ الوافر

فإنك لا تبالي بعد حول *** أظبي كان أمك أم حمار

لما تقدم قبله‏.‏

فاسم كان ضمير ظبي، وهو نكرة، وأمك بالنصب خبرها، وهو معرفة‏.‏ وظبي اسم لكان المضمرة المدلول علها بكان المذكورة، وهو نكرة أيضاً، وخبر المحذوفة محذوف أيضاً مدلول عليه بخبر المذكورة، كما تقدم عن ابن جني‏.‏

وقيل‏:‏ ظبي مبتدأ، وجملة‏:‏ كان أمك خبره‏.‏

قال ابن هشام في المغني الأول أولى، لأن همزة الاستفهام بالجمل الفعلية أولى منها بالاسمية‏.‏ وعليهما فاسم كان ضمير راجع إليه‏.‏

وقول سيبويه إنه أخبر عن النكرة بالمعرفة واضح على الأول، لأن ظبياً المذكور اسم كان، وخبره أمك، وأما على الثاني فخبر ظبي إنما هو الجملة، والجمل نكرات، ولكن يكون محل الاستشهاد قوله‏:‏ كان أمك على أن ضمير النكرة عنده نكرة‏.‏ انتهى‏.‏

وذهب صاحب المفتاح إلى أن تنكير المسند إليه غير موجود بالاستقراء‏.‏ وأما هذا البيت ونحوه فتنكير المسند إليه، إنما هو في ظبي إذا ارتفع بالمضمر، لا في ضمير كان العائد عليه‏.‏ وهو وراد على القلب، والأصل‏:‏

أظبياً كان أمك، أم حماراً

قال‏:‏ إن كون المسند إليه نكرة، والمسند معرفة، سواء قلنا‏:‏ يمتنع عقلاً، ويصح عقلاً، ليس في كلام العرب، وأما ما جاء من نحو قوله‏:‏

ولا يك موقف منك الوداعا

وقوله‏:‏

يكون مزاجها عسل وماء

وبيت الكتاب‏:‏

أظبي كان أمك أم حمار

فمحمول على منوال‏:‏ عرضت الناقة على الحوض‏.‏ وأصل الاستعمال‏:‏ ولا بك موقفاً منك الوداع، ويكون مزاجها عسلاً وماءً، وأظبياً كان أمك أم حماراً‏.‏

ولا تظنن بيت الكتاب خارجاً عما نحن فيه، ذهاباً إلى أن اسم كان هو الضمير، والضمير معرفة، فليس المراد كان أمك، وإنما المراد ظبي، بناء على أن ارتفاعه بالفعل المفسر لا بالابتداء‏.‏ ولذلك قدرنا الأصل على ما ترى‏.‏ انتهى‏.‏

واختار السعد في المطول هذا الأخير، فليس فيه قلب لفظي، وإنما يكون فيه قلب معنوي‏.‏

قال‏:‏ قيل‏:‏ إنه قلب من جهة اللفظ، بناء على أن ظبي مرفوع بكان المقدرة لا بالابتداء، فصار الاسم نكرة والخبر معرفة‏.‏

والحق أن ظبي مبتدأ، وكان أمك خبره، فحينئذ لا قلب فيه من جهة اللفظ، لأن اسم كان ضمير، والضمير معرفة‏.‏ نعم فيه قلب من جهة المعنى؛ لأن المخبر عنه في الأصل هو الأم‏.‏ انتهى‏.‏

ويشهد للقلب ما رواه ابن خلف في شرح شواهد سيبويه، قال‏:‏ وقد ينشد‏:‏

أظبياً كأن أمك أم حمار

على أنه جعل اسم كان معرفة، وخبرها نكرة، فهذا جيد، إلا أنه كان يجب أن ينصب حمار، لأنه معطوف على ظبي‏.‏ فيجوز رفعه على إضمار مبتدأ‏.‏

قال المبرد في كتابه الجامع‏:‏ والأجود في هذه الأبيات نصب الأخبار المقدمة، ورفع المعارف، ورفع القوافي على قطع وابتداء‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت من أبيات لثروان بن فزارة العامري الصحابي، وقد تقدم الكلام عليها مفصلاً في الشاهد الرابع والعشرين بعد الخمسمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثالث والأربعون بعد السبعمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الوافر

ألا من مبلغ حسان عني *** أطب كان سحرك أم جنون

لما تقدم قبله، والكلام فيه كما تقدم‏.‏

والطب بالكسر، قال الأعلم‏:‏ هو هنا العلة والسبب، أي‏:‏ أسحرت فكان ذلك سبب هجائك أم جننت‏.‏ وسحر هنا مصدر سحر المبني للمفعول، وهو مضاف للمفعول‏.‏

والبيت لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري‏.‏ وقد اختلف في إسلامه‏.‏ وحسان هو ابن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكان أبو قيس من الأوس، وحسان من الخزرج، وكانا يتهاجيان، فقال أبو قيس لحسان‏:‏ أذهب عنك عقلك بسحر، حتى اجترأت على هجائي، أم أصابك جنون، فلم تدر ما صنعت‏.‏ يعظم في نفس حسان، ما يأتي من هجاء الأوس وشعرائها، ويتوعده بالمقارضة‏.‏

ورواه ابن دريد في الجمهرة كذا‏:‏

أطيب كان داءك أم جنون

وقال‏:‏ الطب هنا‏:‏ السحر‏.‏

وروي أيضاً‏:‏

أطب كان شأنك أم جنون

وهما أحسن من الرواية الأولى‏.‏

وبعده‏:‏

فلست بزائل أبداً تمنى *** بصدرك من وحاوحه فنون

والوحاوح بواوين ومهملتين‏:‏ الحزازات‏.‏

وأبو قيس تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والثلاثين بعد المائتين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع والأربعون بعد السبعمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الرمل

إنما يجزي الفتى ليس الجمل

هذا عجز، وصدره‏:‏

وإذا أقرضت قرضاً فاجزه

على أن ليس يجوز حذف خبرها كثيراً كهذا البيت، أي‏:‏ ليس الجمل جازياً، ويجزي‏.‏ وقيل‏:‏ إن الجمل هو الخبر، وسكن للقافية، واسمها ضمير اسم الفاعل المفهوم من يجزي، أي‏:‏ ليس الجازي الجمل، فلا حذف فيه‏.‏ وقيل‏:‏ إن ليس فيه عاطفة، وقد ذكره الشارح في لا العاطفة، وسيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله‏.‏

هذا ورواية البيت عند سيبويه‏:‏

إنما يجزي الفتى غير الجمل

وكذا رواه الطوسي في شرح ديوان لبيد‏.‏

وأنشده سيبويه على أن الفتى، هو معرفة، قد نعت بغير، وهي نكرة، والذي سوغه أن التعريف باللام يكون للجنس، ولا يخص وأحداً بعينه، فهو مقارب للنكرة؛ وأن غيراً مضاف إلى معرفة، فقاربت المعارف لذلك‏.‏

وكذا أورده ابن السراج في الأصول، قال‏:‏ إن غيراً لا تدخل في الاستثناء إلا في الموضع الذي ضارعت فيه إلا‏.‏

ألا ترى أنك تقول‏:‏ مررت برجل غيرك، ولا تقع إلا في مكانها، لا يجوز أن تقول‏:‏ جاءني رجل إلا زيد، تريد غير زيد على الوصف‏.‏ فالاستثناء هنا محال‏.‏

ولكن تقول‏:‏ ما يحسن بالرجل إلا زيد أن يفعل كذا، لأن الرجل جنس، ومعناه‏:‏ بالرجل الذي هو غير زيد، كما قال‏:‏

إنما يجزي الفتى غير الجمل

انتهى‏.‏

وهذا البيت من قصيدة طويلة للبيد بن ربيعة الصحابي، وقد تقدم بعضها في الشاهد الثامن والعشرين بعد المائتين‏.‏ وهذه أبيات منها‏:‏ الرمل

اعقلي ن كنت لما تعقلي *** ولقد أفلح من كان عقل

إن تري رأسي أمسى واضح *** سلط الشيب عليه فاشتعل

فلقد أعوص بالخصم وقد *** أملأ الجفنة من شحم القلل

ولقد تحمد لما فارقت *** جارتي والحمد من خير الخول

وغلام أرسلته أمه *** بألوك فبذلنا ما سأل

ونهته فأتاه رزقه *** فاشتوى ليلة ريح واجتمل

من شواء ليس من عارضة *** بيدي كل هضوم ذي نزل

فإذا جوزيت قرضاً فاجزه *** إنما يجزي الفتى ليس الجمل

أعمل العيس على علاته *** إنما ينجح أصحاب العمل

وإذا رمت رحيلاً فارتحل *** واعص ما يأمر توصيم الكسل

واكذب النفس إذا حدثته *** إن صدق النفس يزري بالأمل

غير أن لا تكذبنها في التقى *** واخزها بالبر لله الأجل

قوله‏:‏ اعقلي إن كنت إلخ ، أعوص بالخصم، إذا لوى عليه أمره‏.‏

وقال الطوسي‏:‏ أعوص‏:‏ أركب به الأمر العويص، أي‏:‏ الشديد‏.‏ ويقال‏:‏ أعوص به، أي‏:‏ آتيه بالعويص‏.‏ ويقال‏:‏ أعوص به، أي‏:‏ أحمله على العوصاء، وهي الشدة‏.‏ والجفنة، بفتح الجيم‏:‏ القصعة‏.‏

وأراد بالقلل الأسنمة‏:‏ جمع سنام، والواحد قلة‏.‏ وقلة كل شيء‏:‏ أعلاه وأرفعه‏.‏ يقول‏:‏ إني وإن شبت فإني أنفع وأضر‏.‏

وقوله‏:‏ ولقد تحمد‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، جارتي فاعل تحمد‏.‏ والخول، بفتح الخاء المعجمة‏:‏ العطية‏.‏

وقوله‏:‏ وغلام أرسلته إلخ ، الواو واو رب‏.‏ والألوك، بفتح الهمزة‏:‏ الرسالة، ومنه ألكني السلام إلى فلان، أي‏:‏ أبلغ عني السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ونهته فأتاه إلخ ، معطوف على أرسلته، أي‏:‏ رب غلام نهته أمه عن السؤال منا حياء وقنوعاً، فبعثنا إليه بما اشتوى واجتمل‏.‏

يريد‏:‏ إننا ننعم على الفقير على كل حال، سواء جاء يطلب، ومنع من الطلب‏.‏

يقال‏:‏ شويت اللحم، واشتويته‏.‏ وإذا شويته، فنضج، قلت‏:‏ قد انشوى بالنون لا غير‏.‏

واجتمل‏:‏ اتخذ الجميل، بفتح الجيم، وهو الشحم المذاب‏.‏ يقال‏:‏ اجتمل، أي‏:‏ أذاب الشحم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ‏.‏

وقال الطوسي‏:‏ ويقال‏:‏ اجتمل اللحم، أي‏:‏ طبخه بالشحم ليس معه ماء، وذلك إذا قلاه به‏.‏

وقوله‏:‏ ليلة ريح، أي‏:‏ ليلة برد من الشتاء‏.‏ وهذا غاية الكرم، فإن شدة العرب، وبؤسهم في الشتاء، لعد النبات‏.‏

وهذا البيت استشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم ما يدعون على أن يدعون افتعال من الدعاء، أي‏:‏ يدعون لأنفسهم، كما في اشتوى، واجتمل، أي‏:‏ شوى لنفسه، وجمل لنفسه‏.‏ ومثله في الصحاح، قال‏:‏ اشتويت‏:‏ اتخذت شواء‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وقوله‏:‏ من شواء إلخ ، من متعلقة باشتوى في البيت المتقدم‏.‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ شويت اللحم شياً، والاسم الشواء‏.‏ والعارضة‏:‏ الناقة التي أصابها كسر، وعرض فنحرت‏.‏ والهضوم، بفتح الهاء وضم المعجمة‏:‏ الفتى الذي يهتضم ماله يقطع منه ويكسر‏.‏ والنزل، بفتح النون والزاي‏:‏ المعروف والخير‏.‏

وقوله‏:‏ فإذا أقرضت إلخ ، بالبناء للمفعول، يقال‏:‏ أقرضني فلان، أي‏:‏ أعطاني قرضاً‏.‏ والقرض‏:‏ ما تعطيه من المال لتقضاه‏.‏ والقرض هنا‏:‏ ما سلف من إحسان وإساءة‏.‏

قال أمية بن أبي الصلت‏:‏ البسيط

لا تخلطن خبيثات بطيبة *** واخلع ثيابك منها وانج عريانا

كل امرئ سوف يجزى قرضه حسن *** وسيئاً ومدينا كالذي دانا

وزعم العيني أن قرضاً هنا مفعول مطلق‏.‏

وقال الزجاج عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسن‏:‏ معنى القرض في اللغة‏:‏ البلاء السيئ، والبلاء الحسن‏.‏ العرب تقول‏:‏ لك عندي قرض حسن، وقرض سيئ‏.‏ وأصل القرض ما يعطيه الرجل ليجازى عليه‏.‏ وأنشد بيت لبيد وبيت أمية‏.‏

وقوله‏:‏ فاجزه أمر من الجزاء‏.‏ قال صاحب المصباح‏:‏ جزى يجزي، مثل قضى يقضي وزناً ومعنى‏.‏ وفي الدعاء‏:‏ جزاه الله خيراً، أي‏:‏ قضاه له، وأثابه عليه، وجزيت الدين‏:‏ قضيته‏.‏

وروي‏:‏

فإذا جوزيت قرضاً فاجزه

قال العيني‏:‏ هما بمعنى واحد‏.‏ وليس كذلك، لأن الجزاء لا يكون إلا بعد الإقراض، لا على الجزاء‏.‏

وقوله‏:‏ إنما يجزي الفتى إلخ ، بالبناء للمعلوم، والفتى فاعله‏.‏ وزعم العيني أنه بالبناء للمجهول، والفتى نائب الفاعل‏.‏ وكأنه لم يتصور المعنى‏.‏ ومعناه أن الذي يجزي بما يعامل به، من حسن وقبيح هو الإنسان لا البهيمة‏.‏

قال الزمخشري في المستقصى، وقيل‏:‏ الفتى السيد اللبيب‏.‏ والعرب تقول للجاهل‏:‏ يا جمل‏.‏ أي‏:‏ إنما يجزي اللبيب من الناس لا الجاهل‏.‏ يضرب في الحث على مجازاة الخير والشر‏.‏ انتهى‏.‏

وعلى هذا فيكون للجمل هنا موقع، لا أنه جاء للقافية فقط كما زعم الطوسي‏.‏ والجمل كنيته عند العرب أبو أيوب‏.‏ قال ابن الأثير في المرصع كني الجمل به لصبره على المسير والأحمال، تشبيهاً بصبر أيوب عليه السلام‏.‏

وإلى هذا لمح علي بن العباس، الشهير بابن الرومي، في شعر لبيد، وقد ضمنه في شعره هاجياً وزير المعتضد، أبا أيوب سليمان بن عبد الله، فقال‏:‏ الرمل

يا أبا أيوب هذي كنية *** من كنى الأنعام قدماً لم تزل

ولقد وفق من كناكه *** وأصاب الحق فيها وعدل

أنت شبه للذي تكنى به *** ولبعض الخلق من بعض مثل

لست ألحاك على ما سمتني *** من قبيح الرد ومنع النفل

قد قضى قول لبيد بينن *** إنما يجزي الفتى ليس الجمل

كم حدوناك لترقى في العل *** وأبى الله فلا تعل هبل

ولم أر ذكر أيوب واشتقاقه في كتب اللغو المدونة، كالقاموس، والعباب، والصحاح، مع كثرة دورانه في الألسنة، ولا في مفردات القرآن، مع أنه مذكور فيه‏.‏

وفي المعربات للجواليقي‏:‏

قال أبو علي‏:‏ وقياس همزة أيوب أن تكون أصلاً زائدة، لأنه لا يخلو أن يكون فيعول وفعلولا‏.‏ فإن جعلته فيعولاً كان قياسه لو كان عربياً أن يكون من الأوب مثل قيوم، ويمكن أن يكون فعولاً مثل سفود وكلوب، وإن لم يعلم في الأمثلة هذا، لأنه لا ينكر أن يجيء العجمي على مثال لا يكون في العربي‏.‏ ولا يكون من الأوب، وقد قلبت الواو فيه إلى الياء، لأن من يقول‏:‏ صيم في صوم، لا يقلب إذا تباعدت من الطرف، فلا يقول‏:‏ إلا صوام‏.‏ وكذلك هذه العين إذا تباعدت من الطرف، وحجز الواو بينه وبين الآخر، لم يجز فيه القلب‏.‏ انتهى‏.‏

فأجاز أن يكون من مادة أوب ومن مادة أيب، والمادتان مذكورتان في القاموس، وفي غيره الأولى فقط‏.‏

وقوله‏:‏ أعمل العيس إلخ ، أعمل‏:‏ أمر من الإعمال، وهو الإشغال‏.‏

والعيس‏:‏ الإبل البيض‏.‏ وروى‏:‏ العنس بالنون، وهي الناقة الشديدة‏.‏ والعلات، بالكسر‏:‏ الحالات، جمع علة بمعنى الحالة‏.‏

وقوله‏:‏ وإذا رمت رحيل إلخ ، توصيم‏:‏ فاعل يأمر، والمفعول محذوف، أي‏:‏ يأمره‏.‏ والتوصيم، بالصاد المهملة، هو في الجسد كالتكسير والفترة؛ ووصمته الحمى بالتشديد، إذا أحدثت فيه فترة وتكسيراً‏.‏ وهو من الوصم، وهو الصدع في العود من غير بينونة‏.‏ والوصم أيضاً‏:‏ العيب والعار‏.‏

وقوله‏:‏ واكذب النفس إلخ ، اكذب فعل أمر، والنفس مفعوله، وحدثتها بالبناء للفاعل‏.‏

قال الزمخشري في المستقصى‏:‏ هذا المصراع مثل يضرب في الحث على الجسارة؛ أي‏:‏ حدثها بالظرف، وبلوغ الأمر إذا هممت بأمر، لتنشطها للإقدام، ولا تنازعها بالخيبة فتثبطها‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ إن صدق إلخ ، يعني إذا حدثت نفسك بالموت، لم تعمر شيئاً ولم تؤثل مالاً، وفسد عليك عيشك، فأزرى ذلك بأملك‏.‏ والإزراء بتقديم المعجمة على المهملة‏:‏ النقص‏.‏

قال بعضهم‏:‏ الكامل

وإذا صدقت النفس لم تترك له *** أملاً ويأمل ما اشتهى المكذوب

وأورد هذا البيت صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونعلم ما توسوس به نفسه على أن ما مصدرية، فإنه يقال‏:‏ حدث نفسه بكذا، كما يقولون‏:‏ حدثته به نفسه‏.‏

وقوله‏:‏ غير أن لا تكذبنها، هو استثناء من قوله‏:‏ اكذب النفس‏.‏ واخزها بالمعجمتين‏:‏ أمر من خزاه يخزوه خزواً، إذا ساسه وقهره‏.‏ والباء متعلقة به، ولله متعلق بالبر‏.‏ والأجل‏:‏ أفعل تفضيل‏.‏

وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الخامس والأربعون بعد السبعمائة

الرمل

لم يك الحق على أن هاجه *** رسم دار قد تعفى بالسرر

على أن حذف نون يكن المجزوم الملاقى للساكن، جائز عند يونس‏.‏ وقال السيرافي‏:‏ هذا شاذ‏.‏

والبيت أنشده أبو زيد في نوادره مع بيت آخر بعده‏:‏ وهو‏:‏

غير الجدة من عرفانه *** خرق الريح وطوفان المطر

وقال بعدهما‏:‏ لا أعرف بيتاً حذفت منه النون من يكن مع الألف واللام غير هذا البيت‏.‏

وهذا الحصر غير صحيح، فقد سمع في غيره، قال ابن صخر الأسدي‏:‏ الطويل

فإن لا تك المرآة أبدت وسامة *** فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم

قال ابن السراج في الأصول‏:‏ قالوا‏:‏ لم يكن الرجل، لأن هذا موضع تحرك فيه النون، والنون إذا وليها الألف واللام للتعريف لم تحذف إلا أن يضطر إليه شاعر، فيجوز ذك على قبح واضطرار‏.‏ وأنشد هذين البيتين‏.‏

وكذلك ذهب إلى أنه ضرورة أبو علي في كتاب الشعر، وابن عصفور في الضرائر‏.‏

وقال ابن جني في سر الصناعة‏:‏ أنشد قطرب وقرأناه على بعض أصحابنا برفعه إليه‏:‏

لم يك الحق سوى أن هاجه البيت

أي‏:‏ لم يكن الحق‏.‏ وكان حكمه إذا وقعت النون موقعاً تحرك فيه فتقوى بالحركة أن لا يحذفها، لأنها بحركتها قد فارقت شبه حروف اللين، إذ كن لا يكن إلا سواكن‏.‏

وحذف النون من يكن أقبح من حذف التنوين ونون التثنية والجمع، لأن النون في يكن أصل، وهي لام الفعل، والتنوين والنون زائدتان، فالحذف فيهما أسهل منه في لام الفعل‏.‏ وحذف النون من يكن أيضاً أقبح من حذف نون من في قوله‏:‏ المنسرح

غير الذي قد يقال م الكذب

أي‏:‏ من الكذب، فلأن يكن أصله يكون، حذفت منه الواو لالتقاء الساكنين، فإذا حذفت منه النون أيضاً لالتقاء الساكنين، أجحفت به لتوالي الحذفين، لا سيما من وجه واحد عليه‏.‏ هذا قول أصحابنا في هذا البيت‏.‏

وأرى أنا شيئاً آخر غير ذلك، وهو أن يكون جاء بالحق بعد ما حذق النون من يكن، فصار يك، مثل قوله‏:‏ ولم تك شيئاً فلما قدره يك، جاء بالحق بعد ما جاز الحذف في النون وهي ساكنة تخفيفاً، فبقي محذوفاً بحاله، فقال‏:‏ لم يك الحق‏.‏ ولو كان قدره يكن ثم جاء بالحق، لوجب أن يكسر نونه لالتقاء الساكنين‏.‏

هذا كلامه‏.‏

ولا يخفى أن تعليه يقتضي قياس هذا الحذف‏.‏ وهذا الذي ادعاه لنفسه هو لشيخه أبي علي في المسائل العسكرية قال في آخرها، بعد إنشاد البيت‏:‏ إن قلت فيه إن الجزم لحقه قبل لحاق الساكن، واجتماعه معه، فكأن الساكن الثاني قد مضى في الحرف‏.‏

ونظير هذا إنشاد من أنشد‏:‏ الوافر

فغض الطرف إنك من نمير

حرك الساكن الأول، فلحق الساكن الثاني، وقد مضى الحذف بالفتح للساكن الأول، فكذلك لحق الساكن وقد مضى الحذف في الحرف‏.‏ وإن شئت قلت‏:‏ إن الحركة هنا كانت لالتقاء الساكنين لم يعتد بها، وكان الحرف في نية سكون، فكما كان يحذفها ساكنة كذلك يحذفها إذا كانت في نية السكون‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقوله‏:‏ على أن هاجه ظرف مستقر في موضع الخبر لكان‏.‏ والحق يطلق على معان منها، وهو المراد هنا‏:‏ الموجود بحسب مقتضى الحكمة، أي‏:‏ ليس بلائق بالعاشق أن يهيج حزنه الرسم الدائر‏.‏

وهاج هنا متعد بمعنى أثار، والهاء‏:‏ مفعول مقدم ضمير العاشق في بيت قبله، وهو على حذف مضاف، أي‏:‏ هاج حزنه ووجده‏.‏ ورسم‏:‏ فاعل هاج، وهو أثر الدار، وجملة‏:‏ قد تعفى في موضع الصفة لرسم‏.‏ وتعفى‏:‏ مبالغة عفا الرسم، أي‏:‏ دثر ودرس وقوله‏:‏ بالسرر ظرف مستقر في موضع الصفة لدار، فقد وصف المضاف والمضاف إليه‏.‏ والسرر هنا ضبطه أبو حاتم بفتح السين والراء المهملتين وقد يكسر الأول؛ وكل منهما اسم موضع‏.‏

قال ياقوت في معجم البلدان‏:‏ قال نصر‏:‏ السرر بالتحريك‏:‏ واد يدفع من اليمامة إلى أرض حضرموت‏.‏ والسرر بكسر أوله، قال السكري في قول أبي ذؤيب‏:‏ المتقارب‏.‏

بآية ما وقفت والرك *** ب بين الحجون وبين السرر

هو موضع على أربعة أميال من مكة حرسها الله تعالى، عن يمين الجبل بطريق منى‏.‏

وكان عبد الصمد بن علي اتخذ عنده مسجداً كان به شجرة، ذكر أنه سر تحتها سبعون نبياً، أي‏:‏ قطعت سررهم‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا قال ياقوت ناقلاً عن الأزهري‏:‏ عن ابن عمر أنه سر تحتها سبعون نبياً، سمي سرراً لذلك‏.‏

ثم قال ياقوت‏:‏ وروى المغاربة‏:‏ السرر‏:‏ واد على أربعة أميال من مكة عن يمين الجبل، قالوا‏:‏ هو بضم السين وفتح الراء الأولى، قالوا‏:‏ كذا رواه المحدثون بلا خلاف‏.‏

قال الرياشي‏:‏ المحدثون يضمونه، وهو إنما هو السرر بالفتح‏.‏ وهذا الوادي هو الذي سر فيه سبعون نبياً، أي‏:‏ قطعت سررهم بالكسر وهو الأصح‏.‏ انتهى‏.‏

وروى‏:‏ ودثر بدل قوله‏:‏ بالسرر، أي‏:‏ درس، ولم يبق منه شيء‏.‏ وعلى هذا يكون معطوفاً على تعفى، فيكون صفة لرسم أيضاً‏.‏

وقوله‏:‏ غير الجدة إلخ ، هذه الجملة صفة لرسم أيضاً‏.‏ والجدة بكسر الجيم‏:‏ مصدر جد الشيء يجد بالكسر جدة، هو خلاف القديم‏.‏ والعرفان بالكسر‏:‏ مصدر عرفته عرفة بالكسر وعرفاناً، إذا علمته بحاسة من الحواس الخمس، فهو مصدر مضاف لمفعوله، والهاء ضمير الرسم، وفاعله محذوف‏.‏ وخرق‏:‏ فاعل غير، وهو بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة، أي‏:‏ القطع من الريح، جمع خرقة‏.‏

وروى الأصمعي‏:‏ خرق بضمتين جمع خريق، وهي الريح التي تنخرق في الجبال وغيرها‏.‏

وطوفان المطر‏:‏ كثرته‏.‏ كذا قال أبو حاتم فيما كتبه على النوادر‏.‏ يقول‏:‏ غيرت كثرة الريح والأمطار ما استجددناه من معرفتنا لهذا الرسم‏.‏

والبيتان نسبهما أبو زيد لحسيل بن عرفطة، قال‏:‏ وهو شاعر جاهلي‏.‏ وحسيل‏:‏ مصغر حسل، بكسر الحاء وسكون السين المهملة بعدهما لام، وهو ولد الضب‏.‏

قال أبو العباس‏:‏ هو حسيل بفتح الحاء وكسر السين، وقال أبو حاتم‏:‏ وحسين‏:‏ مصغر حسن بالنون‏.‏ وغلطه الأخفش فيه‏.‏ والله أعلم‏.‏

أفعال المقاربة

أنشد فيه،

الشاهد السادس والأربعون بعد السبعمائة

الطويل

إذا غير النأي المجين لم يكد *** رسيس الهوى من حب مية يبرح

على أن بعضهم، قال‏:‏ إن النفي إذا دخل على كاد تكون في الماضي للإثبات، وفي المستقبل كالأفعال، مستمسكاً بالآية، وهذا البيت‏.‏

وهذا الفصل في كاد هن وبعينه عبارة اللباب بتغيير كلمه‏.‏ قال صاحب اللباب‏:‏ وإذا دخل النفي على كاد، فهو كسائر الأفعال على الصحيح، وقيل‏:‏ يكون للإثبات، وقيل‏:‏ يكون في الماضي دون المستقبل، تمسكاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون ، وبقول ذي الرمة‏:‏

إذا غير الهجر المحبين لم يكد إلخ

والجواب نه لنفي مقاربة الذبح، وحصول الذبح بعد لا ينافيها، ولم يؤخذ من لفظ‏:‏ وما كادوا، بل من لفظ‏:‏ فذبحوها‏.‏ انتهى‏.‏

قال شارحه الفالي‏:‏ قوله‏:‏ وإذا دخل النفي إلخ ، معناه نفي ما دخل عليه، إدراجاً له في الأمر العام المعلوم من اللغة، وهو أنه إذا دخل النفي على فعل، أفاد نفي مضمونه‏.‏

وقيل‏:‏ يكون للإثبات، أي‏:‏ لإثبات الفعل الذي دخل عليه كاد في الماضي، وفي المستقبل‏.‏

أما في الماضي، فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون ، والمراد أنهم قد فعلوا الذبح‏.‏ وأما في المضارع، فلأن الشعراء خطؤوا ذا الرمة في قوله‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ لم يكد *** رسيس الهوى من حب مية يبرح

وهو أنه يؤدي إلى أن المعنى‏:‏ إن رسيس الهوى يبرح، ويزول، وإن كان بعد طول عهد‏.‏ فلولا أنهم فهموا في اللغة أن النفي إذا دخل على المضارع من كاد أفاد إثبات الفعل الواقع بعده‏:‏ لم يكن لتخطئتهم وجه‏.‏

وقيل‏:‏ يكون في الماضي للإثبات دون المستقبل، تمسكاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون إذ المعنى قد فعلوا كما ذكرنا‏.‏

وبقول ذي الرمة‏:‏

إذا غير الهجر البيت

إذ المعنى‏:‏ وما برح حبها من قلبي‏.‏

فهذا القائل تمسك بقول ذي الرمة، والقائل الأول تمسك بتخطئة الشعراء ذا الرمة‏.‏ والجواب أنه لنفي مقاربة الذبح، وحصول الذبح بعد، أي‏:‏ بعد أن نفى مقاربة الذبح، لا ينافيها‏.‏ ولم يؤخذ من لفظ‏:‏ كادوا، بل من لفظ‏:‏ فذبحوها‏.‏

وهذا جواب عن القولين المذكورين، فإنا لا نسلم أن النفي الداخل على كاد يفيد الإثبات، لا في الماضي، ولا في المستقبل، بل هو باق على وضعه، وهو نفي المقاربة‏.‏ وليس ما تمسكوا به بشيء؛ أما في الآية، فهو أن معناه أن بني إسرائيل ما قاربوا أن يفعلوا للإطناب في السؤالات، ولما سبق في قولهم‏:‏ أتتخذنا هزواً وهذا التعنت دليل على أنهم كانوا لا يقاربون فعله فضلاً عن نفس الفعل‏.‏

ونفي المقاربة قد يترتب عليه الفعل، وقد لا يترتب، وهو قوله‏:‏ وحصول الذبح بعد لا ينافيها‏.‏ وأما إثبات الذبح فمأخوذ من الخارج، وهو قوله‏:‏ فذبحوها وأما البيت فكذلك معناه، لأن حبها لم يقارب أن يزول فضلاً عن أن يزول‏.‏ وهو مبالغة في نفي الزوال؛ فإنك إذا قلت‏:‏ ما كاد زيد يسافر، فمعناه أبلغ من‏:‏ ما يسافر زيد، أي‏:‏ لم يسافر، ولم يقرب من أن يسافر أيضاً‏.‏ فالبيت مستقيم ولا وجه لتخطئة الشعراء إياه‏.‏ انتهى‏.‏

وقد بين الشارح المحقق فساد هذين القولين في آخر الباب‏.‏ وقوله كغيره‏:‏ إن الشعراء خطؤوا ذا الرمة المخطئ إنما هو عبد الله بن شبرمة‏.‏

قال المرزباني في الموشح‏:‏ حدثني أحمد بن محمد الجوهري، وأحمد بن إبراهيم الجمال، قالا‏:‏ حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال‏:‏ حدثنا يزيد بن محمد بن المهلب بن المغيرة، بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة، قال‏:‏ حدثنا عبد الصمد ابن المعذل، عن أبيه، عن جده غيلان بن الحكم، قال‏:‏ قدم علينا ذو الرمة الكوفة فوقف على راحلته بالكناسة، ينشدنا قصيدته الحائية، فلما بلغ إلى هذا البيت‏:‏

إذا غير النأي المحبين ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ

فقال له ابن شبرمة‏:‏ يا ذا الرمة، أراه قد برح‏.‏ ففكر ساعة، ثم قال‏:‏

إذا غير النأي المحبين لم أجد *** رسيس الهوى ***‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ

قال‏:‏ فرجعت إلى أبي الحكم بن البختري بن المختار، فأخبرته الخبر، فقال‏:‏ أخطأ ابن شبرمة حيث أنكر عليه، وأخطأ ذو الرمة حيث رجع إلى قوله‏.‏ إنما هذا كقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذا أخرج يده لم يكد يراها ، أي‏:‏ لم يراها، ولم يكد‏.‏ انتهى‏.‏

وقال السيد المرتضى في أماليه‏:‏ روى عبد الصمد بن المعذل عن غيلان عن أبيه عن جده غيلان، قال‏:‏ قدم علينا ذو الرمة الكوفة فأنشدنا بالكناسة، وهو على راحلته، قصيده الحائية التي يقول فيها‏:‏

إذا غير النأي المحبين إلخ

فقال له عبد الله بن شبرمة‏:‏ قد برح يا ذا الرمة‏.‏ ففكر ساعة، ثم قال‏:‏

إذا غير النأي المحبين لم أجد إلخ

قال‏:‏ فأخبرت أبي بما كان من قول ذي الرمة، واعتراض ابن شبرمة عليه، فقال‏:‏ أخطأ ذو الرمة في رجوعه عن قوله الأول، وأخطأ ابن شبرمة في اعتراضه عليه‏.‏ وهذا كقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا أخرج يده لم يكد يراها ‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لذي الرمة، مطلعها‏:‏

أمنزلتي مي سلام عليكم *** على النأي والنائي يود وينصح

وبعده‏:‏

فلا القرب يبدي من هواها ملالة *** ولا حبها إن تنزح الدار ينزح

أتقرح أكباد المحبين كلهم *** كما كبدي من ذكر مية تقرح

وقوله‏:‏ إذا غير النأي إلخ ، النأي فاعل غير، ومعناه البعد‏.‏ ورسيس الهوى‏:‏ مسه‏.‏ ويبرح‏:‏ يزول، وهو فعل تام لازم‏.‏ ومية‏:‏ اسم معشوقته‏.‏

يقول‏:‏ إن العشاق إذا بعدوا عمن يحبون دب السلو إليهم، وزال عنهم ما كانوا يقاسون، وأما أنا فلم يقرب زوال حبها عني، فكيف يمكن أن يزول‏.‏

وزاد على هذا المعنى قوله في هذه القصيدة‏:‏

أرى الحب بالهجران يمحى فينمحي *** وحبك مياً يستجد ويربح

أي‏:‏ يزيد الحب، كما يزيد الربح‏.‏

وقوله‏:‏ فلا القرب يبدي إلخ ، نزحت الدار‏:‏ بعدت‏.‏ يقول‏:‏ حبها إن بعدت الدار لم يتغير، هو لازم ثابت‏.‏

وقوله‏:‏ أتقرح، القرح‏:‏ الجرح‏.‏

وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏